الخميس، 15 نوفمبر 2012

باب ما جاء في الرياء






الحمد لله وحده , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه , أما بعد : 

باب ما جاء في الرياء


قوله : ( باب : ما جاء في الرياء )

أي : من النهي والتحذير . قال الحافظ : هو مشتق من الرؤية . والمراد به : إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدون صاحبها . والفرق بينه وبين السمعة : أن الرياء لما يرى من العمل كالصلاة . والسمعة لما يسمع كالقراءة والوعظ والذكر ، ويدخل في ذلك التحدث بما عمله . 

وقول الله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴿110﴾ ‏) [ الكهف ] .

قوله : " وقول الله تعالى : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ) 
أي : ليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شئ ، بل ذلك كله لله وحده لا شريك له , أوحاه إلي ( فمن كان يرجوا لقاء ربه ) أي : يخافه : ( فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ).

قوله : (( أحداً )) نكرة في سياق النهي تعم ، وهذا العموم يتناول الأنبياء والملائكة والصالحين والأولياء وغيرهم .

قال شيخ الإسلام رحمه الله : أما اللقاء : فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة ، وقالوا : لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى يوم القيامة ، وذكر الأدلة على ذلك .

قال ابن القيم رحمه الله في الآية : أي كما أن الله واحد لا إله سواه ، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له ، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية ، فالعمل الصالح : هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة .

وفي الآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرسلين قبله ، هو إفراده تعالى بأنواع العبادة ، كما قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] .

والمخالف لهذا الأصل من هذه الأمة أقسام : إما طاغوت ينازع الله في ربوبيته وإلهيته ، ويدعو الناس إلى عبادته ، أو طاغوت يدعو الناس إلى عبادة الأوثان ، أو مشرك يدعو غير الله ويتقرب إليه بأنواع العبادة أو بعضها ، أو شاك في التوحيد : أهو حق , أم يجوز أن يجعل لله شريك في عبادته ؟ أو جاهل يعتقد أن الشرك دين يقرب إلى الله ، وهذا هو الغالب على أكثر العوام لجهلهم وتقليدهم من قبلهم ، لما اشتدت غربة الدين ونسى العلم بدين المرسلين .

وعن أبي هريرة مرفوعاً : ( قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك , من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ) رواه مسلم . 

قوله : " وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : " قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" رواه مسلم .

قوله : [ من عمل عملاً أشرك فيه غيري ] أي من قصد بعمله غيري من المخلوقين (( تركته وشركه )) .

ولابن ماجه [ فأنا منه بريء وهو للذي أشرك ] قال الطيبي : الضمير المنصوب في قوله : (( تركته )) يجوز أن يرجع إلى العمل .

قال ابن رجب رحمه الله : واعلم أن العمل لغير الله أقسام : فتارة يكون رياء محضاً كحال المنافقين . كما قال تعالى (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿142﴾ ) [ النساء ] وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام . وقد يصدر في الصدقة أو الحج الواجب أو غيرهما من الأعمال الظاهرة , أو التي يتعدى نفعها ، فإن الإخلاص فيها عزيز ، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط ، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة .

وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء ، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه .

وذكر أحاديث تدل على ذلك منها : هذا الحديث , وحديث شداد بن أوس مرفوعاً ( من صلى يرائي فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ، وإن الله عز وجل يقول : أنا خير قسيم لمن أشرك بي ، فمن أشرك بي شيئاً فإن جدة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به . أنا عنه غني ) رواه أحمد .

وذكر أحاديث في المعنى , ثم قال : فإن خالط نية الجهاد مثلاً نية غير الرياء ، مثل أخذ أجرة للخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة , نقص بذلك أجر جهاده , ولم يبطل بالكلية .

قال ابن رجب : وقال الإمام أحمد رحمه الله : التاجر والمستأجر والمكري أجرهم على قدر ما يخلص من نياتهم في غزواتهم ، ولا يكونون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره .

وقال أيضاً فيمن يأخذ جعل الجهاد : إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس كأنه خرج لدينه إن أعطي شيئاً أخذه .

وروي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : ( إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقاً فلا بأس بذلك ، وأما إن كان أحدكم أعطي دراهم غزا وإن لم يعط لم يغز , فلا خير في ذلك ) .

وروي عن مجاهد رحمه الله : أنه قال في حج الجمال وحج الأجير ، وحج التاجر ( هو تام لا ينقص من أجرهم شيء ) أي لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب .

قال : وأما إن كان أصل العمل لله , ثم طرأ عليه نية الرياء : فإن كان خاطراً ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف ، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا , فيجازى على أصل نيته ؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف , قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير ، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك ، وأنه يجازي بنيته الأولى ، وهو مروي عن الحسن وغيره .

وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه ، فقال : تلك عاجل بشرى المؤمن " رواه مسلم . انتهى ملخصاً .

قلت : وتمام هذا المقام يتبين في شرح حديث أبي سعيد إن شاء الله تعالى .

وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً : ( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : الشرك الخفي : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل " رواه أحمد .

قوله : " وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً : ( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : الشرك الخفي : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل " رواه أحمد " .

وروى ابن خزيمة في " صحيحه " عن محمود بن لبيد قال : ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيها الناس ، إياكم وشرك السرائر ، قالوا : يا رسول الله وما شرك السرائر ؟ قال : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه . فذلك شرك السرائر ) .

قوله : " عن أبي سعيد " الخدري وتقدم .

قوله : (( الشرك الخفي )) سماه خفياً لأن صاحبه يظهر أن عمله لله وقد قصد به غيره ، أو شركه فيه بتزيين صلاته لأجله . وعن شداد بن أوس قال : ( كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر ) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص ، وابن جرير في التهذيب ، والطبراني والحاكم وصححه .

قال ابن القيم : وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله ، وقول الرجل للرجل , ماشاء الله وشئت ، وهذا من الله ومنك ، وأنا بالله وبك ، وما لي إلا الله وأنت ، وأنا متوكل على الله وعليك ، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا . وقد يكون هذا شركاً أكبر بحسب حال قائله ومقصده ، انتهى .

ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله ، وكذلك المتابعة ، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ) [ الملك : 2 ] قال : (( أخلصه وأصوبه )) . 

قيل : ياأبا علي , ما أخلصه وأصوبه , قال : إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل , وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً , فالخالص ما كان لله , والصواب ما كان على السنة . 

وفي الحديث من الفوائد : شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم ، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال . فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه على سادات الأولياء مع قوة إيمانهم وعلمهم فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أولى بالخوف من الشرك أصغره وأكبره .


" فتح المجيد شرح كتاب التوحيد " 

تأليف : المجدد الثاني الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب .

ــــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري (1252)، ومسلم (926).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق